الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
لأن العوراء ناقصة البصر، وناقصة البصر تكون ناقصة الرعي لأنها لا ترى إلا ما يقابل عينًا واحدة، ونقص الرعي مظنة للهزال. وعلى هذا الوجه فالعمياء ليست كالعوراء. لأن العمياء يختار لها أحسن العلف. فيكون ذلك مظنة لسمنها. والثالث منها أن يكون المسكوت عنه مساويًا للمنطوق به في الحكم مع القطع بنفي الفارق. كقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْمًا} [النساء: 10] الآية. فإحراق أموال اليتامى وإغراقها المسكوت عنه مساو للأكل المنطوق به في الحكم الذي هو التحريم والوعيد بعذاب النار مع القطع بنفي الفارق. والرابع منها أن يكون المسكوت عنه مساويًا للمنطوق به في الحكم أيضًا: إلا أن نفي الفارق بينهما مظنون ظنًا قويًا مزاحمًا لليقين، ومثاله الحديث الصحيح: «من أعتق شركًا له في عبد...» الحديث المتقدم في الإسراء والكهف فإن المسكوت عنه وهو عتق بعض الأمة مساو للمنطوق به وهو عتق بعض العبد في الحكم الذي هو سراية العتق المبينة في الحديث المتقدم مرارًا. إلا أن نفي الفارق بينهما مظنون ظنًا قويًا، لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا يناط بهما حكم من أحكام العتق. كما قدمناه مستوفى في سورة مريم وهناك احتمال آخر هو الذي منع من القطع بنفي الفارق، وهو احتمال أن يكون الشارع نص على سراية العتق في خصوص العبد الذكر، مخصصًا له بذلك الحكم دون الأنثى. لأن عتق الذكر تيرتب عليه من الآثار الشرعية ما لا يترتب على عتق الأنثى، كالجهاد والإمامة والقضاء. ونحو ذلك من المناصب المختصة بالذكور دون الإناث. وقد أكثرنا من أمثلة هذا النوع الذي هو الإلحاق بنفي الفارق في سورة بني إسرائيل. وأما النوع الثاني من أنواع الإلحاق فهو القياس المعروف في الأصول، وهو المعروف بقياس التمثيل. وسنعرفه هنا لغة واصطلاحا، ونذكر أقسامه، وما ذكره بعض أهل العلم من أمثلته في القرآن:اعلم أن القياس في اللغة: التقدير والتسوية. يقال: قاس الثوب بالذراع، وقاس الجرح بالميل بالكسر وهو المرود: إذا قدر عمقه به: ولهذا سمي الميل مقياسًا، ومن هذا المعنى قول البعيث بن بشر يصف جراحة أو شجة:
فقوله قاسها يعني قدر عمقها بالميل. والآسي: الطبيب، والنطاسي بكسر النون وفتحها: الماهر بالطب: والغثيثة بثائين مثلثتين: مدة الجرح وقيحه، وما فيه من لحم ميت. والوهي: التخرق والتشقق. والهزوم: غمز الشيء باليد فيصير فيه حفرة كما يقع في الورم الشديد.وتعريف القياس المذكور في اصطلاح أهل الأصول كثرت فيه عبارات الأصوليين، مع مناقشات معروفة في تعريفاتهم له. واختار غير واحد منهم تعريفه بأنه: حمل معلوم على معلوم. أي إلحاقه به في حكمه لمساواته له في علة الحكم.وهذا التعريف إنما يشمل القياس الصحيح دون الفاسد. والتعريف الشامل للفاسد: هو أن تزيد على تعريف الصحيح لفظة عند الحامل. فتقول: هو إلحاق معلوم في حكمه لمساواته له في علة الحكم عند الحامل، فيدخل الفاسد في الحد مع الصحيح، كما أشار إليه صاحب مراقي السعود بقوله معرفًا للقياس: ومعلوم أن أركان القياس المذكور أربعة: وهي الأصل المقيس عليه، والفرع المقيس، والعلة الجامعة بينهما، وحكم الأصل المقيس عليه.فلو قسنا النَّبيذ على الخمر فالأصل الخمر، والفرع النَّبيذ، والعلة الإسكار، وحكم الأصل الذي هو الخمر التحريم. وشروط هذه الأركان الأربعة، والبحث فيها مستوفى في أصول الفقه، فلا نطيل به الكلام هنا.واعلم أن القياس المذكور ينقسم بالنظر إلى الجامع بين الفرع والأصل إلى ثلاثة أقسام:الأول قياس العلة.والثاني قياس الدلالة.والثالث قياس الشبه.أما قياس العلة فضابطه: أن يكون الجمع بين الفرع والأصل بنفس علة الحكم، فالجمع بين النَّبيذ والخمر بنفس العلة التي هي الإسكار. والقصد مطلق التمثيل، لأنا قد قدمنا أن قياس النَّبيذ على الخمر لا يصح، لوجود النص على أن «كل مسكر خمر، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام». والقياس لا يصح مع التنصيص على أن حكم الفرع المذكور كحكم الأصل، إلا أن المثال يصح بالتقدير والفرض ومطلق الاحتمال كما تقدم. وكالجمع بين البر والذرة بنفس العلة التي هي الكيل مثلًا عند من يقول بذلك، وإلى هذا أشار في المراقي بقوله: وأما قياس الدلالة فضابطه: أن يكون الجمع فيه بدليل العلة لا بنفس العلة، كأن يجمع بين الفرع والأصل بملزوم العلة أو أثرها أو حكمها. فمثال الجمع بملزوم العلة أن يقال: النَّبيذ حرام كالخمر بجامع الشد المطربة، وهي ملزوم للإسكار، بمعنى أنها يلزم من وجودها الإسكار. ومثال الجمع بأثر العلة أن يقال: القتلى بالمثقل يوجب القصاص كالقتل بمحدد بجامع الإثم، وهو أثر العلة وهي للقتل العمد العدوان. ومثال الجمع بحكم العلة أن يقال: تقطع الجماعة بالواحد كما يقتلون به، بجامع وجوب الدية عليهم في ذلك حيث كان غير عمد، وهو حكم العلة التي هي القطع منهم في الصورة الأولى، والقتل منهم في الثانية. وإلى تعريف قياس الدلالة المذكور أشار في مراقي السعود بقوله: وقوله: الذي لزم بالبناء للفاعل يعني اللازم، وتعبيره هنا باللازم تبعًا لغيره غلط منه رحمه الله، وممن تبعه هو لأن وجود اللازم لا يكون دليلًا على وجود الملزوم بإطباق العقلاء.لاحتمال كون اللازم أعم من الملزوم، ووجود الأعم لا يقتضي وجود الأ×ص كما هو معروف. ولذا أجمع النظار على استثناء عين التالي في الشرطي المتصل لا ينتج عين المقدم. لأن وجود اللازم لا يقتضي وجود الملزوم. والصواب ما مثلنا به من الجمع بملزوم العلة، لأن الملزوم هو الذي يقتضي وجوده وجود اللام كما هو معروف. فالشدة المطربة والإسكار متلازمان، ودلالة الشدة المطربة على الإسكار إنما هي من حيث إنها ملزوم له لا لازم، لما عرفت من أن وجود اللازم لا يقتضي وجود الملزم. واقتضاؤه له هنا إنما هو للملازمة بين الطرفين. لأن كلا منهما لازم للآخر وملزوم له للملازمة بينهما من الطرفين.وأما قياس الشبه فقد اختلفت فيه عبارات أهل الأصول. فعرف بعضهم الشبه بأنه منزلة بين المناسب والطرد. وعرفه بعضهم بأنه المناسب بالتبع لا بالذات. ومعنى هذا كمعنى تعريف من عرفه بأنه المستلزم للمناسب.قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: عبارات أهل الأصول في الشبه الذي هو المسلك السادس من مسالك العلة عند المالكية والشافعية، كلها تدور حول شيء واحد، وهو أن الوصف الجامع في قياس الشبه يشبه المناسب من وجهه، ويشبه الوصف الطردي من جهة أخرى. وقد قدمنا في سورة مريم أن المناسب هو الوصف الذي تتضمن إناطة الحكم به مصلحة من جلب نفع أو دفع ضر، والطردي هو ما ليس كذلك، إما في جميع الأحكام وإما في بعضها: ولا خلاف بين أهل الأصول في أن ما يسمى بغلبة الأشباه لا يخرج عن قياس الشبه. لأن بعضهم يقول إنه داخل فيه، وهو الظاهر. وبعضهم يقول هو بيعنه لا شيء آخر. وغلبة الأشبه هي إلحاق فرع متردد بين أصلين بأكثرهما شبهًا به. كالعبد فإنه متردد بين أصلين لشبهه بكل واحد منهما. فهو يشبه المال لكونه يباع ويشترى ويوهب ويورث إلى غير ذلك من أحوال المال. ويشبه الحر من حيث إنه إنسان ينكح ويطلق ويثاب ويعاقب، وتلزمه أوامر الشرع ونواهيه. وأكثر أهل العلم يقولون: إن شبهه بالمال أكثر من شبهه بالحر. لأنه يشبه المال في الحكم والصفة معًا أكثر مما يشبه الحر فيهما.فمن شبهه بالمال في الحكم كونه يباع ويشترى ويورث، ويوهب ويعار، ويدفع في الصداق والخلع، ويرهن إلى غير ذلك من التصرفات المالية.ومن شبهه بالمال في الصفة كونه تتفاوت قيمته بحسب تفاوت أوصافه جودة ورداءة. كسائر الأموال. فلو قتل إنسان عبدًا لآخر لزمته قيمته نظرًا إلى أن شبهه بالمال أغلب. وقال بعض أهل العلم: تلزمه ديته كالحر زعمًا منه أن شبهه بالحر أغلب، فإن قيل: بأي طريق يكون هذا النوع الذي هو غلبة الأشباه من الشبه.لأنكم قررتم أنه مرتبة بين المناسب والطردي، فما وجه كونه مرتبة بين المناسب والطردي؟ فالجواب: أن إيضاح ذلك فيه أن أوصافه المشابهة للمال ككونه يباع ويشترى إلخ طردية بالنسبة إلى لزوم الدية، لأن كونه كالمال ليس صالحًا لأن يناط به لزوم ديته إذا قتل، وكذلك أوصافه المشابهة للحر ككونه مخاطبًا يثاب ويعاقب إلخ. فهي طردية بالنسبة إلى لزوم القيمة: لأن كونه كالحر ليس صالحًا لأن يناط به لزوم القيمة، فهو من هذه الحيثية يشبه الطردي كما ترى. أما ترتب القيمة على أوصافه المشابهة لأوصاف المال فهو مناسب كما ترى. وكذلك ترتب الدية على أوصافه المشابهة لأوصاف الحر مناسب، وبهذين الاعتبارين يتضح كونه مرتبة بين المناسب والطردي.ومن أمثلة أنواع الشبه غير غلبة الأشباه الشبه الذي الوصف الجامع فيه لا يناسب لذاته، ولَكِنه يستلزم المناسب لذاته، وقد شهد الشرع بتأثير جنسه القريب في جنس الحكم القريب. كقولك في الخل مائع لا تبنى القنطرة على جنسه، فلا يرفع به الحدث، ولا حكم الخبث قياسًا على الدهن. فقولك لا تبنى القنطرة على جنسه ليس مناسبًا في ذاته. لأن بناء القنطرة على المائع في حد ذاته وصف طردي إلا أنه مستلزم للمناسب: لأن العادة المطردة أن القنطرة لا تبنى على المائع القليل، بل على الكثير كالأنهار، والقلة مناسبة، لعدم مشروعية المتصف بها من المائعات للطهارة العامة. فإن الشرع العام يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود. أما تكليف الجميع بما لا يجده إلا البعض فبعيد من القواعد. فصار قولك لا تبنى القنطرة على جنسه ليس بمناسب، وهو مستلزم للمناسب. وقد شهد الشرع بتأثير جنس القلة والتعذر في عدم مشروعية الطهارة، بدليل أن الماء إذا قل واشتدت إليه الحاجة فإنه يسقط الأمر بالطهارة به وينتقل إلى التيمم.وأما الشبه الصوري فقد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] وقد قدمنا في أول سورة براءة كلام ابن العربي الذي قال فيه: ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجؤوا إلى قياس النسبة عند عدم النص، ورأوا أن قصة براءة شبيهة بقصة الأنفال فألحقوها بها، فإذا كان القياس يدخل في تأليف القرآن: فما ظنك بسائر الأحكام؟ وإلى الشبه المذكور أشار في مراقي السعود بقوله: واعلم أن قياس الطرد يصدق بأمرين. لأن الطرد يطلق إطلاقين: يطلق على الوصف الطردي الذي لا يصلح لإناطة حكم به لخلوه من الفائدة. كما لو ظن بعض القائلين بنقض الوضوء بلحم الجزور: أن علة النقض به الحرارة فألحق به لحم الظبي قائلًا: إنه ينقض الوضوء قياسًا على لحم الجزور بجامع الحرارة. فهذا القياس باطل. لأنه الوصف الجامع فيه طردي. ومثله كل ما كان الوصف الجامع فيه طردنا وهو أحد الأمرين للذين يطلق عليهما قياس الطرد.والأمر الثاني منهما هو القياس الذي الوصف الجامع فيه مستنبطًا بالمسلك الثامن المعروف بالطرد وهو الدوران الوجودي، وإيضاحه. أنه مقارنة الحكم للوصف في جميع صورة غير الصورة التي فيها النزاع في الوجود فقط دون العدم. والاختلاف في إفادته العلة معروف في الأصول.واعلم أن القياس وما يتعلق به موضح في فن أصول الفقه والأدلة التي تدل على أن الوصف المعين علة للحكم المعين هي المعروفة بمسالك العلة، وهي عشرة عند من يعد منها إلغاء الفارق، وتسعة عند من لا يعده منها، وهي: النص، والإجماع، والإيماء، والسبر والتقسيم، والمناسبة، والشبه، والدوران، والطرد، وتنقيح المناط، وإلغاء الفارق، والتحقيق أنه نوع من تنقيح المناط كما قدمنا. وقد نظمها بعضهم بقوله: ومحل إيضاحها فن أصول الفقه، وقد أوضحناها في غير هذا المحل. وأما القوادح في الدليل من قياس وغيره، فهي معروفة في فن الأصول وقد نظمها باختصار الشيخ عمر الفاسي بقوله: وإنما لم نوضح هنا المسالك والقوادح. لأن ذلك يفضي إلى الإطالة المملة، مع أن الجميع موضح في أصول الفقه، وقد أوضحناه في غير هذا الموضع، وقصدنا هنا التنبيه عليه في الجملة من غير تفصيل. فإذا علمت ذلك فاعلم أن العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى شفى الغليل بما لا مزيد عليه في هذه المسائل في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين وسنذكر هنا إن شاء الله جملًا وافية مفيدة من كلامه في هذا الموضوع الذي نحن بصدده.
|